السبت، 15 مارس 2008

بلاد النوبة






شخبط شخابيط ... لخبط لخابيط .

من منا لا يشخيط شخابيط على أي ورقة أمامه سوء كان بالعمل وماسك بالقلم وأخذ في التفكير بموضوع ما داخل العمل أو خارجه .. المهم الجمجمة اشتغلت معه وسافر بعيدا بدماغه عن الموجودين بجواره ... وبدأت يده في الشخبطة على الورق أو على نتيجة المكتب التي أمامه ... وأيضا ممكن تحصل مع طالب المدرسة في أثناء وقت المذاكرة .. بدأ يسرح شوية مع نفسه في مدرس ما أو في أحد الدروس صعبة الفهم ، أو في بنت الجيران التي لا تعطيه ريق حلو أو أي أهمية أو مش مشكلة بالمنزل .. الخ ماسك القلم وقاعد يشخبط .

على فكرة الشخبطة ده موضوع فعله تلقائيا بدون أحساس ما دام القلم في يدك وبدأت تشرد بالتفكير في شيء شاغل ذهنك ... تصورا أن ممكن من كل هذه الشخابيط تجد فيها شيء ، يعني ممكن رسمه حلوه تظهر لك أو كتابة تأخذ منه كلام جميل بالنهاية ... وكنا زمان وأحنا صغار دائما نحب نقلد الكبار مثل الوالد أو الوالدة ونعمل مثلهم وعاوزين نمسك القلم ونصر على ذلك .. وبعدين ماما تعطيك القلم وهنا تبدأ أنت تشخبط في أي حاجة أمامك ورقة أو مفرش سفرة أو على حائط البيت وبالأخر النتيجة تأخذ علقة ساخنة لأنك عملت تشويه وبهدله في البيت بهذه الشخابيط ... لكن أطفال دلوقتي محظوطين لأن أهلهم يقومون بشراء لهم لوحة رسم أو سبورة حائط منزلية أو حتى شوية أوراق للشخبطة ... وبعدين طلعت لهم العسوووله نانسي عجرم وتقول لهم ... شخبط شخابيط ... لخبط لخابيط .

أما عن شخابيطي ولخابيطي لكم اليوم ... فيها شوية فائدة لكل الأخوة والأخوات ، وإلى كل من لا يعرف عن بلاد النوبة التي تمتد من السودان حتى مصر وتحديدا في منطقة أسوان .

بلاد النوبة :

تحتل منطقة النوبة حيزاً كبيراً من اهتمامات الباحثين والمفكرين والكتاب وتوجد العديد من الكتابات التي تناولت مختلف جوانب الحياة بها ومن أبرزها كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر لابن خلدون والإسلام والنوبة للدكتور مصطفى سعد والبيان والأعراب للمقريزي وتاريخ السودان منذ أقدم العصور لأركل.وحول ملامح الدولة النوبية قبل الإسلام وبعد الإسلام وكيفية استيعابهم للغة العربية والهجرات العربية للنوبية. التقت الجزيرة الدكتور عبدالرازق عبدالمجيد الباحث السوداني الذي نال درجة الدكتوراه مؤخراً حول النوبة في العصر المملوكي والعلاقات بينها وبين مصر، في هذا الحوار .
الممالك النوبية الثلاثة :
ما هي ملامح الدولة النوبية قبل الإسلام؟

تبدأ المنطقة النوبية من أسوان وكانت تسمى إثيوبيا نسبة إلى لون البشرة السمراء والعرب سموهم الكوشيون نسبة إلى كوشاييم فالنبي نوح عليه السلام كان له ثلاثة أولاد هم حام وسام ويافث وأولاد حام هم كوش ومصر وسام ، ولذا سميت النوبة ببلاد كوش وبلاد النوبة تقع في مصر والسودان وحتى لفظ السودان يعتبر حديثا وأطلقه العرب على كل البلاد التي تقع جنوب مصر وكل أفريقيا ومنذ القرن السادس قبل الميلاد تكونت المملكة المروية في المناطق النوبية واستمرت حتى القرن الرابع بعد الميلاد عندما سقطت المملكة المروية إثر هجمات من ممالك مسيحية من منطقة الحبشة وبدأت معها حضارة المجموعة المجهولة وعندما دخل الإسلام مصر حدث اتحاد في بلاد النوبة بين الممالك النوبية وهي مملكة نوباتيا وعاصمتها فرس في النوبة السفلى بين الشلال الأول والثاني ومملكة مقرة عاصمتها دنقلا في النوبة الوسطى بين وادي حلفا وأبو حمد ومملكة علوة عاصمتها سوبا في النوبة العليا ونوباتيا قامت عام 540م على يد الملك سليكون وفي البداية اتخذ العاصمة في كلابشة ثم انتقل الى بلاد فرس على حدود السودان وأما النوبة العليا عندما سقطت عام 1404 مملكة علوة على يد الفونج انتقلت العاصمة إلى سنار لتسمى المملكة الزرقاء .

رماة الحدق :
كيف تم فتح بلاد النوبة ودخولها الإسلام؟ .

تم فتح مصر عام 640م بقيادة عمرو بن العاص بأربعة آلاف جندي في ظرف خمسة أشهر فقط في حين أنه حاول فتح بلاد النوبة لمدة عشر سنوات من عام ( 640 – 650م ) فلم يستطع لشهرة النوبيين برماة الحدق أي رمي السهام من الأقواس من أعلى الجبال والنيشان في حدقة العين ومثبت تاريخياً أن هناك حوالي (150) قائد عربي فقدوا عيونهم في هذه المعارك أما الذي سهل فتح مصر كان وقوف المصريين إلى جانب القائد عمرو بن العاص لكرههم حكم الرومان الذين كانوا يعذبونهم عكس بلاد النوبة التي كانت تشهد استقراراً في حكمها.بدأ العنصر العربي الوافد في بلاد النوبة منذ القرن الثالث الهجري فقد أثبتت الأبحاث الأثرية في منطقة مريس أن جاليات عربية قد استقرت فيها ووضح أثرها في القرن الثالث الهجري وقد عثر في بعض الأماكن بأرض مريس على كثير من الكتابات العربية يرجع تاريخ أقدمها إلى هذا العصر كما عثر على شواهد قبور تحمل أسماء عربية بتاريخ 217 هجرية 813 ميلادية والأبحاث التي قام بها دي فيار في جهة مريس تؤيد هذا القول. ومن المرجح أن العنصر العربي توافد إلى المنطقة النوبية عن طريق ممارسة التجار العرب نشاطاً تجارياً في المنطقة حيث كانوا يجلبون من بلاد النوبة الذهب والزمرد وبعض المعادن الثمينة من وادي العلاقي بالصحراء الشرقية وبلاد البجا والعاج من غرب السودان وجنوبه الغربي ومن أثيوبيا وتنزانيا والتمر هندي واللبان والصمغ العربي من كردفان وريش النعام والإبل من البجا وأعواد البخور وبعض البهارات من الصومال والمسك من النوبة .

كيف استوعب النوبيون اللغة العربية مع وجود لغتهم النوبية ؟
أن اللغة العربية تأخرت في انتشارها وحتى في مصر انتشر الدين الإسلامي واللغة العربية بعد 500 سنة حيث كانت اللغة السائدة هي اللغة القبطية واستعان عمرو بن العاص بمترجم عند دخوله مصر ولنشر الدين واللغة قام الوليد بن عبدالملك بفرض بعض الشروط منها الذي يريد الاحتفاظ بأرضه عليه أن يسلم والذي يريد رخصة معينة عليه تعلم اللغة العربية وأما في النوبة فان اللغة العربية وتعاليم الدين الإسلامي كانت تتم عن طريق التجار العرب ولكن الانتشار الحقيقي للإسلام فكان في عهد الفاطمية فعندما فتح المعز لدين الله الفاطمي مصر اتجه إلى النوبة واختار أحد الكنوز كداعية إسلامي هو عبدالله بن احمد بن سليم الأسواني الذي وجد الجميع مسيحيين وقابل ملك علوة فوجد فيها عددا من المسلمين فنشر بها بعض الدعاة وجدد معاهدة البقط والعصر الفاطمي شهد قيام أمارة عربية نوبية اتخذت مدينة أسوان مركزا لها وامتد نفوذها جنوبا في أرض مريس هذه الإمارة أسسها عرب ربيعة بزعامة أبي مروان بشر بن اسحق وقد خلفه على زعامة القبيلة ابن عمه ربيعة من النوبيين وقد تزوجوا من بنات رؤسائهم والراجح أن هذه العشيرة كونت طبقة حاكمة خضع لها النوبيون من أهل مريس الذين زال عنهم السلطان الفعلي لملك النوبة المسيحي ولاسيما بعد أن تحول معظمهم إلى الإسلام .

المماليك وتجديد معاهدة البقط :
هل كانت هناك هجرات عربية أخرى للنوبة؟

في العصر الأيوبي وأثناء حكم صلاح الدين الأيوبي الذي اخذ ولاية مصر من الفاطميين حكم 88 سنة هو وحلفاؤه الذين حاربوا النوبيين خاصة توران شاه فوصلت جيوشه إلى منطقة أبريم وقد عارض النوبيون حكم صلاح الدين لحبهم الشديد للفاطميين خاصة بني الكتر الذين قاموا بنشر الدين الإسلامي بين النوبيين وفي أبريم تحصن النوبيون وقبلها دارت حرب كبيرة في منطقة بين الصورين بالموسكي وفي النهاية سلمت جيوش صلاح الدين أبريم إلى أقطاعي كبير يدعى إبراهيم الكردي ولانشغال الأيوبيين بالحروب الصليبية انقطعوا عن النوبة ثم جاء المماليك وتم تحديد معاهدة البقط وتم إرسال حملة عام 1317م إلى دنقلا لضرب الملك المسيحي النوبي ووضعوا بدلا عنه ملك كتري يدعى نصر الدين بن شجاع ومن الهجرات العربية التي اندفعت إلى النوبة في العصر المملوكي هجرة جهينة وهي واحدة من خليط القبائل العدنانية والقحطانية وبطونها المختلفة.وهكذا انتشر الإسلام في بلاد النوبة دون حد السيف كما حدث في بلاد أخرى كثيرة ولعدم استطاعة العرب فتح بلاد النوبة اتجهوا غربا حتى المحيط الأطلسي .
والهجرات العربية هي صاحبة الفضل الأول في انتشار الإسلام في بلاد النوبة وان كان الانتشار تم بشكل بطيء واستغرق وقتا طويلا منذ حملات عمرو وعبدالله بن سعد بداية القرن الرابع عشر الميلادي واكتملت ظاهرة انتشار الإسلام في القرن الخامس عشر الميلادي .

عصور النوبة عبر التاريخ :
أولا :
عصور ما قبل التاريخ ( العصور الحجرية ) :

تعتبر المعلومات المستمدة عن عصور ما قبل التاريخ في السودان شحيحة نوعا ما نسبة لحداثة عهد الكشف الأثري في السودان . وتعتبر الحفريات التي تقوم بها مصلحة الآثار السودانية المصدر الوحيد الذي نستقي منه معلوماتنا عن هذه الفترة ، حيث دلت الأدوات الحجرية ومخلفات المدافن التي تم الكشف عنها على وجود شكل من أشكال الحضارة البشرية في مناطق متعددة من السودان ، خاصة في الأجزاء الشمالية منها :
في منطقة الخرطوم الحالية وجدت آثار من العصور الحجرية الأولى ترجع لجنس زنجي يعتقد انه كان يختلف عن أي جنس زنجي معروف لدينا حتى الآن .
وجدت أيضا آثار من العصر الحجري الحديث في منطقة الشهيناب (شمال الخرطوم) ، استدل منها على معرفة إنسان الشهيناب للفخار وصناعة الخزف واستئناس الحيوان .
وفي منطقة خور موسى ( شمال وادي حلفا ) وجدت آثار لمجموعات كانت تعيش على القنص والجمع وصيد السمك ، يعتقد بأن هذه المجموعات ربما تكون قد وفدت إلى وادي النيل من الصحراء المتاخمة التي كانت آنـذاك سافنا غنية آنذاك ، وذلك عندما بدأت في الجفاف والتحول إلى ما هي عليه الآن .
كما وجدت آثار ترجع إلى 15.000 سنة قبل الميلاد في سلسلة من المواقع ما بين توشكي والشلال الثاني ، دلت كلها على وجود تجمعات بشرية أكثر تطورا في هذه المناطق، ويسود الاعتقاد بأن هذه المجموعات البشرية ربما تكون قد عرفت النشاط الزراعي ومارسته، وذلك قبل عقود طويلة من قيام الثورة الزراعية في آسيا .
ومما سبق ، يتضح أن شطر وادي النيل الجنوبي كان الأسبق في ظهور المجموعات البشرية التي وفدت إليه منذ بدايات العصور الحجرية الأولى ، بعكس شطره الشمالي الذي يرجع تاريخ أقدم المجموعات البشرية فيه إلى العصور الحجرية الوسيطة والحديثة .

ثانيا :
المجموعة الحضارية الأولى ( 3800 ق م - 3100 ق م ) :


يرجع تاريخ هذه المجموعة إلى ما قبل 10 آلاف سنة . وقد قامت هذه الحضارة في منطقة خور بهان شرقي مدينة أسوان المصرية (حيث الصحراء الآن)، وكان مركزها في مناطق القسطل ووادي العلاقي .
كان أفراد هذه المجموعة يعتمدون في حياتهم على تربية الماشية ، ولم يكن وادي النيل مأهولا بالسكان في ذلك الوقت ، إلا أن بعض المجموعات نزحت - ولأسباب غير معروفه - جنوبا وتمركزت في المناطق المجاورة للشلال الثاني حيث اكتسب أفرادها بعض المهارات الزراعية البسيطة نتيجة لاستغلالهم الجروف الطينية والقنوات الموسمية الجافة المتخلفة عن الفيضان في استنبات بعض المحاصيل البسيطة ، مما أسهم في استقرارهم هناك ومن ثم قيام مجتمعات زراعية غنية وعلى مستوى عال من التنظيم فيما بعد .
وعلى عكس الاعتقاد السائد فان الدراسات التي أجريت مؤخرا على آثار هذه المجموعة في منطقة القسطل أثبتت وجود درجة عالية من التنظيم السياسي والرخاء الاقتصادي لديها ، بدا جليا من التقاليد التي كانت متبعة في دفن الموتى وثراء موجودات المدافن مما يدعو إلى الاعتقاد بوجود ممالك قوية لبس ملوكها التاج الأبيض واتخذوا صقر حورس الشهير رمزا لهم ، وذلك قبل زمن طويل من رصفائهم الفراعنة في مصر العليا . والجدير بالذكر أن التاج الأبيض وشعار حورس اتخذا فيما بعد رمزا للممالك المصرية التي نشأت في مصر لاحقا ، مما أدى إلى الاعتقاد بان هذا التقليد منشأه ممالك مصر الفرعونية ، ولكن في الواقع فإن وادي النيل الأعلى لم يكن قد عرف بعد الكيانات البشرية المتطورة في تلك الحقبة البعيدة من التاريخ عندما نشأت حضارة المجموعة الأولى في المناطق الشمالية من النوبة .

احتلت المجموعة الأولى وممالكها ، كما يبدو من آثارهم المنتشرة في المنطقة ، جزءا من وادي النيل امتد من جبل السلسلة ( في مصر العليا ) شمالا وحتى بطن الحجر عند الشلال الثاني في الجنوب . وكان قدماء المصريون يسمون النوبة آنذاك ب " تا سيتي " أي ارض الأقواس نسبة لمهارتهم في الرماية ، وربما كانت بينهم نزاعات حدودية انتهت باحتلال النوبة للأجزاء الجنوبية من مصر العليا لفترة من الوقت وبصرف النظر عن صحة نشوء مثل هذه النزاعات فإن من الثابت وجود علاقات تواصل وتبادل تجاري جيدة بينهم استفادت منها مصر كثيرا خاصة في مجال الزراعة ، حيث ساعد انتقال الخبرات النوبية إلى مصر على استقرار المجتمعات البشرية في شمال الوادي وتطورها مما كان له الفضل في قيام الممالك المصرية القديمة لاحقا .
أهم ما يميز المجموعة الحضارية الأولى أنواع الفخار المميز ذو اللون الوردي والأواني المزركشة بالنقوش ، وقد عثر على بعض الأنواع المشابهة لهذا الفخار في مناطق متفرقة من شمال السودان حتى أم درمان .
كما تميزت هذه الحقبة بطريقتها المميزة في دفن الموتى حيث كان الميت يدفن في حفرة بيضاوية الشكل على جانبه الأيمن متخذا شكل الجنين ومتجها جهة الغرب .
مع بدايات توحيد ممالك مصر العليا في مملكة واحدة متحدة واجهت النوبة قوة لا تقهر في الشمال بدأت تهدد وجودها واستقرارها . وبازدياد نفوذ وهيبة المملكة المصرية المتحدة اتجهت أطماعها جنوبا صوب النوبة ، في الوقت الذي بدأت فيه المجموعة الأولى تفقد قوتها العسكرية والاقتصادية مما جعلها عاجزة عن تأمين حدودها الشمالية التي بدأت تتقلص تدريجيا نحو الجنوب ، وقد بدا علامات الضعف والتدهور واضحة في آثار هذه الفترة مما دفع بعض العلماء إلى الاعتقاد بوجود مجموعة أخري تعرف باسم " المجموعة الحضارية الثانية " تلت المجموعة الأولى وكانت أضعف منها نسبيا .
وبحلول العام 2900 ق.م أصبحت النوبة السفلى بكاملها تحت السيطرة المصرية وخلت تماما من سكانها بعد تراجعهم جنوبا إلى منطقة النوبة العليا ليختلطوا بحضارة كرمة الوليدة ، وظلت النوبة السفلى بعد ذلك مهجورة لعقود طويلة وانقطعت أخبارها خاصة بعد تعرض آثارها ومدافنها الملوكية للحرق والتدمير من قبل جيوش المملكة المصرية . وهكذا طويت صفحة هامة من تاريخ هذا الجزء من وادي النيل في نفس الوقت الذي كانت تشهد فيه منطقة أخرى من النوبة ميلاد حضارة جديدة ظهرت بوادرها في منطقة كرمة على الضفة الشرقية للنيل جنوب الشلال الثالث .

ثالثا :
المجموعة الحضارية الثالثة ( 2300 ق م - 1550 ق م ) :

قامت على ضفاف النيل ما بين أسوان والشلال الثاني ، وجاورتها حضارة أخرى مشابهة لها في شمال السودان في منطقة كرمة جنوب الشلال الثالث .وقد تمركزوا في أربعة إمارات أهمها الواوات وامتدت ما بين الشلالين الأول والثاني وقد أطلق اسمها على كل النوبة السفلى لاحقا ، بالإضافة إلى إمارة يام وهم أسلاف كوش .
كان أفراد هذه المجموعة رعاة يقومون بتربية الماشية كغيرهم من القبائل الأفريقية ، ويعتقد بعض العلماء بأنهم ربما كانوا ينتمون إلى جنس البحر المتوسط ، وقد تحركوا أبان تفكك المملكة المصرية شمالا إلى مصر كرعاة أو جنود وبرزوا في المجتمع المصري ، كما لعبوا دورا كبيرا في الصراعات التي نشأت في عصر المملكة المصرية الوسطي حوالي 2050 ق م ، وقد صار للنوبة السفلى فراعنتها النوبيون عندما اعترى مصر الضعف والتفرق حوالي عام 2250 ق م .
تتميز حضارة المجموعة الثالثة بمقابرها الحجرية الدائرية والمزركشة بنقوش وصور الماشية والفخار ، وتوجد بعض هذه المدافن في سرة شرق وادنان . وقد تطبعت هذه المجموعة بالثقافة المصرية نتيجة لاحتكاكهم بالمصريين خلال حكمهم للنوبة السفلى في الفترة ما بين 1950 و 1700 ق م .

رابعا :
حضارة كرمة : ( 2000 - 1550 ق. م ) :

في الوقت الذي كانت فيه النوبة السفلى شمال الشلال الثاني تقبع تحت السيطرة المصرية ظلت النوبة العليا تتمتع باستقلالها وبعدها عن النفوذ المصري في الشمال ، مما أتاح الفرصة لقيام حضارة جديدة ظهرت بوادرها في منطقة كرمة على الضفة الشرقية للنيل جنوب الشـلال الثالث ، وفي حدود عام 1700 ق.م بدأت مصر في التمزق والتفكك مما سهل على مملكة كرمة الوليدة مد نفوذها شمالا والسيطرة على منطقة النوبة السفلى ، فورثت حضارة المجموعة الثالثة وثقافتها مما أدى إلى ازدهارها وبروزها كقوة وحيدة يحسب لها حساب في المنطقة .

مرت حضارة كرمة عبر مرحلتين حضاريتين سمي العلماء الأولى منها بحضارة كرمة الأولى وامتدت ما بين 3000 - 2400 ق.م ، وتميزت هذه الفترة بتأثرها بثقافة المجموعة الأولى التي كانت قد نزحت جنوبا في بدايات الاحتلال المصري للنوبة السفلى ، ولكن يلاحظ عدم وجود اثر للثقافة المصرية مما يدل على عدم وجود اتصال بين النوبة العليا ومصر في تلك الفترة . أما في عصر حضارة كرمة الثانية فقد ازدهرت منطقة النوبة ونمت كمركز تجاري مهم ،وقامت فيها العديد من الصناعات المهمة خاصة صناعة الفخار، لذا كان من الطبيعي نشوء علاقات قوية مع مصر كانت تقوم على التبادل التجاري بينهما ، خاصة وأن مدينة كرمة كانت تقع في وسط الممر التجاري ما بين أفريقيا و مصر .

تميزت حضارة كرمة بمدافنها التي كانت في هيئة أكوام من التراب دائرية الشكل محاطة بالحجارة وفي وسطها مبنى ذو دهليز كان يوضع فيه الموتى . كما اشتهرت كرمة بفخارها المميز والمشهور ب "خزف كرمة" وكان من أجود أنواع الفخار المعروف في وادي النيل عبر التاريخ ، وقد عثر على نماذج منه في دلتا النيل في أقصى الشمال .

خامسا :
عصر السيطرة المصرية الأولى : ( 1950 - 1700 ق. م ) :
كانت النوبة على امتداد تاريخها الطويل عرضة للاعتداءات المصرية على أطرافها الشمالية . وكان من أهم أسباب هذه الاعتداءات الرغبة في تامين الحدود الجنوبية وتأمين طرق التجارة التي كانت تربط مصر بإفريقيا عبر بلاد النوبة ، بالإضافة إلى الأطماع المصرية في ثروات المنطقة المختلفة . لكل هذه الأسباب تعددت المناوشات المصرية على حدود النوبة منذ عهود ما قبل الأسر في مصر ، واستمرت على امتداد التاريخ النوبي ، وكانت تنتهي في أحيان كثيرة باحتلال أجزاء منها (خاصة منطقة النوبة السفلى) .
ولعل أول محاولة فعلية لاحتلال النوبة كانت في عهد الأسرة المصرية الثانية عشر عندما غزا المصريون النوبة حتى منطقة سمنة وبنوا فيها العديد من الحصون والقلاع لتأمين حدودهم الجنوبية . ومنذ ذلك التاريخ خضعت المجموعة الثالثة للنفوذ المصري لما يقرب من 250 عاما تمكنت خلالها من الاحتفاظ بخصائصها وهويتها الثقافية . انتهت هذه السيطرة عندما تفككت المملكة المصرية الوسطى وضعفت قوتها مما شجع مملكة كرمة على مد نفوذها شمالها وضم كل منطقة النوبة السفلى في حدود عام 1700 ق. م .

سادسا :
عصر السيطرة المصرية الثانية ( 1550 - 1100 ق. م ) :

بعد طرد الهكسوس من مصر على يد "أحمس" مؤسس الأسرة الثامنة عشر استعادت مصر قوتها ونفوذها وبدأ في مصر عهد جديد سمي بالمملكة المصرية الحديثة . في هذا العصر تجددت الأطماع المصرية في بلاد النوبة ، وتتالت المحاولات لغزو أطرافها الشمالية ، إلى أن تم إخضاع النوبة بكاملها حتى الشلال الرابع في عهد "تحتمس الثالث " فدخلت النوبة مرة أخري عهدا جديدا من السيطرة المصرية استمر لمدة ستة قرون .

في هذا العصر تأثرت النوبة كثيرا بالثقافة المصرية حيث أعتنق أهلها الديانة المصرية وعبدوا ألهتها حتى صارت النوبة جزءاً لا يتجزأ عن مصر . وكانت تبعية النوبة لمصر تبعية مباشرة حيث كان الفراعنة المصريين يعينون نوابـاً عنهم لإدارة البلاد السودانية .
لعب النوبة دوراً أساسياً في حياة مصر الاقتصادية في عصر الدولة الحديثة حيث استفادت مصر من مواردها وثرواتها المتعددة متمثلة في الذهب ، الأبنوس ، سن الفيل ، العطور ، البخور ، ريش النعام ، الفهود وجلودها ، الزراف ، كلاب الصيد ، والماشية . وفي هذا العصر بلغت بلاد النوبة أقصى درجات رُقيها ، إذ ازداد الرخاء واتسعت التجارة بين البلدين وطُبعًـت حضارة السودان بالطابع المصري في جميع مرافقها .

سابعا :
مملكة نباتا ( 747 ق م - 200 ق م ) :
بحلول العام 900 ق م كانت المملكة المصرية القديمة قد تفككت إلى ممالك صغيرة وضعفت شوكتها ففقدت سيطرتها على المناطق النوبية التي دخلت عصرا مظلما لا يعرف عنه حاليا إلا القليل . بدأت بعد ذلك في منطقة النوبة العليا بوادر حضارة جديدة تمثلت في قيام مملكة وليدة عرفت فيما بمملكة " كوش " أو " نبتة " .
تأسست مملكة نبتة على يد الملك النوبي "كاشتا" أول ملوك هذه الدولة عندما نجح في استرداد عرش بلاده من الإمبراطورية المصرية وأقام دولة نوبية كانت عاصمتها في مدينة " نبتة " بالقرب من الشلال الرابع ، سرعان ما ازدهرت وبرزت في المنطقة كقوة لا يستهان بها . كانت تجاور هذه المملكة في الجنوب مملكة مروي النوبية ، وفي الشمال الإمبراطورية المصرية المتهالكة التي كانت تلفظ أنفاسها الأخيرة نتيجة للتمزق الصراعات الداخلية .
خلف "كاشتا" على العرش ابنه "بيا" المعروف ب "بعانخي" ، والذي تمكن من توحيد قطري وادي النيل فعليا بعد أن استنجد به المصريون لحماية طيبة في الجنوب من خطر الملك الشمالي تفنخت . استجاب بيا لطلب المصريين وحرر مصر كلها ليتوحد وادي النيل للمرة الأولى في التاريخ .
توالى على عرش نبتة بعد بعانخي العديد من الملوك أهمهم ابنه "شبتاكا" الذي تصدى للزحف الآشوري عندما أرسل جيوشه بقيادة أخيه الأصغر "تهارقا" إلى الشام لمساندة حكام سوريا وفلسطين الذين استنجدوا به ، إلا أنه هزم وعاد إلى مصر . وقد خلف شبتاكا في الحكم أخاه الأصغر "تهارقا" الذي شهد عهده استقرارا في بداياته نسبة لانشغال الآشوريين بخلافاتهم الداخلية مما هيأ الفرصة ل"تهارقا" لتوجيه جهده للبناء والتعمير في مصر ، حتى لقب "بالملك البناء" . هذا الاستقرار لم يدم طويلا إذ أطل الخطر الآشوري على حدود مصر من جديد في أواخر عهد "تهارقا" الذي وجد نفسه مضطرا للتخلي عن نشاطاته المدنية والتصدي للآشوريين ، إلا أنه اضطر للتخلي عن للآشوريين وانسحب منها إلى طيبة التي ظل بها حتى وفاته في عام 663 ق.م .
خلف تهارقا ابن أخيه "تانوت أماني" الذي تمكن من استعادة منف من الآشوريين وأعاد وادي النيل بأكمله لسيادة النوبة ، إلا أن الملك الآشوري أشور بن بعل سرعان ما تمكن من استعادة منف ثم توغل جنوبا نحو طيبة التي انسحب منها " تانوت أماني" إلى كوش التي ظل بها حتى توفي في عام 653 ق.م . وبانسحاب " تانوت أماني " آخر ملوك الأسرة الخامسة والعشرين من مصر ينتهي حكم النوبة لمصر، والذي استمر لمدة 100 عام وقد تميز عهدهم بالرخاء والأمن ونعم فيه المصريون بالعدل الذي حرموا منه في سابق عهودهم ، مما جعل سيرة النوبيين خالدة في شمال الوادي لفترات طويلة حتى بعد أن انقضى عهدهم .
استمرت مملكة نبتة في ازدهارها في الجنوب بعد انسحاب آخر ملوكها من مصر ، وكانت تسير علي النهج المصري في كل مظاهر الحياة والحضارة إذ كان "آمون" معبود الدولة الرسمي كما اتخذ ملوكها الألقاب الفرعونية وشيدوا مقابرهم علي الطريقة المصرية وزينوها بالرسوم المصرية والنقوش الهيروغليفية .
تعاقب على عرش نبتة مجموعة من الملوك أهمهم : "اتلانيرسا" ، "سنكامانسكن" ، "أنلاماني" ، "إسبالتا" ، وتميزوا كلهم بالثراء والغنى الذي تجلى واضحا في آثارهم ، مما يدل على أن نبتة كانت ما تزال تحتفظ بقوتها الاقتصادية حتى آخر عهدها . هذا الثراء الذي أدى فيما يبدو إلى تجدد الأطماع المصرية في النوبة التي بدأت حدودها الشمالية تتعرض للاعتداءات المصرية المتكررة ، مما حدا بملوك نبتة إلى تحويل عاصمتها من نبتة إلى مروي في الجنوب بعيدا عن الخطر المصري . وقد انتهت المحاولات المصرية المتكررة باحتلال الأجزاء الشمالية من النوبة حتى الشلال الثاني في عهد الملك المصري بساماتيك الثاني .

ثامنا :
عصر بلانة ( 250 م – 550 م ) :


بعد سقوط مملكة مروي على يد عيزانا في عام 350 م مرت النوبة بفترة غامضة لا يعرف عنها الكثير إثر وفود مجموعات بشرية جديدة مجهولة الجنس لوادي النيل فبدأت الثقافة النوبية في التغير وظهرت معالم حضارة جديدة تختلف عن سابقاتها في الخصائص . أطلق على هذه المجموعة اسم المجموعة الحضارية أو المجموعة المجهولة ، كما عرفت أيضا باسم حضارة بلانة نسبة للمكان الذي وجدت فيه آثارها . وقد شهد هذا العصر قيام مملكتين في منطقة النوبة وهما :

1 - مملكة البليمي :

والبليمي هم قبائل سكنت شرق النيل وحتى البحر الأحمر ، وقد عرفوا عند الإغريق بهذا الاسم بينما سماهم العرب بالبدجا ، وهم قبائل البجا الحالية في شرق السودان .
تمكن البليمي في أواخر عهد الإمبراطورية الرومانية في مصر وتدهور مملكة مروي من التوغل في المناطق الجنوبية لمصر والنوبة العليا وأقاموا مملكة قوية جنوب أسوان سميت بمملكة البليمي . وبالرغم من أنهم فقدوا السيطرة على جنوب مصر ألا أن البليمي تمكنوا من الاحتفاظ بالنوبة العليا حيث نشأت حضارتهم هناك وازدهرت في مناطق القسطل وأدندان وبلانة .
استمر البليمي في عبادة الآلهة المصرية التي كانت معروفة آنذاك لكنهم بدلوا ألقاب الفرعونية للملوك بأسماء وألقاب أخرى إغريقية . تميزت آثار هذه المملكة بالثراء ، وتتمثل أهم موجوداتهم في نوع مميز من الفخار المزخرف والذي تم العثور عليه في منطقة كلابشة .
2 - مملكة النوباديين ( نوباتيا ) :
النوباديين هم القبائل المعروفة بالنوبة الآن ، وكانوا يسكنون ضفاف النيل . وقد تمكن النوباديون من تأسيس مملكة قوية على الحدود الشمالية للنوبة حوالي عام 375 م إبان سقوط مملكة مروي .
اعتنق النوباديين المعتقدات المصرية فعبدوا آلهتهم ، كما استخدموا الرموز الفرعونية في الكتابة .كما اتبعوا طريقة أسلافهم المرويين في دفن الملوك في مدافن ضخمة مع قرابين من الرعايا والأحصنة والحمير والجمال وغيرها من الحيوانات . وقد وجدت آثار ثراء دلت عليه بقايا معابدهم ومدافنهم في القسطل وبلانة والمتآلفة من المجوهرات والسيوف الأفريقية والتيجان والأسلحة وكلها موجودة الآن في متحف القاهرة .
استمرت مملكتا البليمي والنوباديين في المنطقة إلى أن أطل الغزو المسيحي القادم من الشمال فاتحدت المملكتان لمقاومته ، إلا أن الحملات التبشيرية نجحت في نشر المسيحية في رقعة واسعة من المنطقة منذرة بدخول عهد جديد في منطقة النوبة سمى بالعصر المسيحي .
تاسعا :
العصر المسيحي ( 550 م – 1400 م ) :

بدأت علاقة النوبة بالمسيحية عندما أرسل الإمبراطور الروماني ثيودورا أول بعثة تبشير مسيحية من القسطنطينية عام 543 م بقيادة جوليان لنشر المسيحية هناك . وفي عصر الإمبراطور جوستنيان اعتنقت النوبة بأكملها المسيحية ليبدأ العصر المسيحي في السودان والذي استمر حتى دخول الإسلام . وقد وجدت آثار هذا العصر في كل من فرس وسرة شرق .
قامت في هذا العصر ثلاث ممالك مسيحية قوية في منطقة النوبة وهي :
مملكة نوباتيا : أسسها الملك "سليكون" عام 540 م في النوبة السفلى ما بين الشلالين الأول والثاني على أنقاض مملكة البليمي ، و كانت عاصمتها في كلابشة ثم فرس .
مملكة المغرة : وقامت في النوبة الوسطى بين وادي حلفا وأبو حمد وعاصمتها دنقلا العجوز .
مملكة علوة : وقامت في النوبة العليا وكانت عاصمتها سوبا بالقرب من الخرطوم الحالية .سقطت في عام 1504 م على يد الفونج ، حيث انتقلت إلى سنار وسميت بعد ذلك بالسلطنة الزرقاء .
وفي عام 650 م اتحدت مملكة النوباطيين مع مملكة المغرة فنشأت مملكة قوية وصلت قمة مجدها في القرن العاشر الميلادي .ومن الملوك الذين تعاقبوا على عرش هذه المملكة الملك داوود الذي اعتلى العرش عام 1272 م ، والملك كودنيس آخر ملوك النوبة .
وبعد الفتح الإسلامي لمصر فقدت النوبة الاتصال بالعالم المسيحي في الشمال ولكنها ظلت متمسكة بالمسيحية لقرون طويلة ، وساعد على ذلك فشل محاولات الفتح الإسلامي لمناطق النوبة والتي انتهت بمعاهدة الصلح الشهيرة ب"معاهدة البقط ". ولكن لم يستمر هذا الصمود النوبي طويلا أمام المد الإسلامي القادم من الشمال حيث نشطت الهجرات العربية إلى السودان في بدايات القرن الثاني عشر . وقد لعبت هذه الهجرات دورا كبيرا في نشر الإسلام في مناطق النوبة مما أدى إلى سقوط عهد المسيحية في النهاية وتحول النوبة بكاملها إلى الإسلام اعتبارا من العام 1400 م .

*****************
خزان أسوان .. والسد العالي .

بدأ العمل بخزان أسوان .




لقد كانت فكرة أقامة خزان في أسوان فكرة قديمة منذ قام المهندس العربي الحسن بن الهيثم بعمل دراسات في القرن الحادي عشر الميلادي. ولكن فان عدم استقرار الأحوال الداخلية في مصر جعل الحكام يصرفون النظر عن هذا المشروع وبعد الاحتلال الإنجليزي لمصر؛ فكر الإنجليز في أقامة خزان يتحكم في مياه النيل يختزن فيه الفائض من المياه في زمن الفيضان. وكان التفكير في أقامة الخزان في أضيق نقطة على مجرى النيل شمال أسوان عند بلدة "الخطارة" ولكن المسئولين عن التنفيذ وجدوا أن أقامة الخزان في ذلك المكان سيترتب عليه غرق مدينة أسوان مما سوف يتسبب في تكاليف باهظة سواء في التعويضات أو في أقامة مدينة جديدة. واستقر الرأي على أقامة الخزان فوق الجندل الأول للشلال وبدأ العمل في أقامة الخزان عام 1898 وانتهى عام 1902م .

ولكن لجشع الانجليز والطمع في زراعة المزيد من الأراضي بالقطن في الشمال؛ بدءوا بالتفكير في تعلية الخزان لخزن المزيد من المياه. وقد تمت التعلية الأولى عام 1912م ، أي بعد عشر سنوات من أقامة الخزان؛ وقد تسببت هذه التعلية في غـرق بلاد النوبة الواقعة بين الشلال و"كروسكو" على امتداد 225 كيلومتر. فغرقت هذه البلاد بما عليها من مساكن و الملايين من أشجار النخيل والأشجار الأخرى وكذلك السواقي. فكمـا نـرى كلما زاد جشع الحكام وقتها ازدادت معاناة النوبيون والبلاد التي أغرقتها التعلية الأولى للخزان هي :
دابـود - دهميت - امبركاب - كلابشة - أبوهور - مرواو - ماريا - جرف حسين - قرشة - كشتنمة شرق - كشتنمة غرب - الدكة - العلاقي - قورته - السيالة - المحرقة - السبوع - المضيق - وادي العرب - شاترمة - السنقاري - الريقة – المالكي .

وهكذا اضطر الأهالي للانتقال إلى أعالي الجبال ليبنوا فوقها مساكنهم الجديدة بدلاً من تلك التي أغرقتها المياه فالانتماء إلى الأرض والوطن كان هو الأقوى مهما كانت حجم الصعاب. وهكذا فقد النوبيون بذلك أهم مقومات حياتهم الاقتصادية وأخذت المياه التي تختزنها المنطقة في تغيير الطبيعة الجغرافية للمكان وتصبح المراكب هي وسيلة الانتقال الوحيدة كما صارت الحوانيت متنقلة لسد حاجة الأهالي وتوفير مستلزمات المعيشة؛ لقد تحمل النوبيون هذا الوضع قرابة ثلاثين عاما حتى بدأ الانجليز بالتفكير في التعلية الثانية للخزان في سنة 1934م وكأنهم لم يكتـفـوا بما قاساه أهل النوبة وبالدمار الذي لحق بقراهم وأراضيهم. وقد تسببت التعلية هذه المرة في غرق البقية الباقية من "المالكي" وحتى أخر حدودنا الجنوبية في "أدندان" على طول 350 كيلومتر وهو غرق كامل لكل الأراضي على ضفتي النيل وقامت الحكومة بإقامة مشروعات للري في الدكة والعلاقي وبلانة للتخفيف من حجم الكارثة على الأهالي. ولكن كان للطبيعة رأي آخر فعندما تنحسر المياه خلف الخزان يبادر الأهالي بزراعة الأرض التي انحسرت عنها المياه؛ وهو ما يعرف باسم "الناجير"؛ بالذرة واللوبيا والكشرنجيج وما يكاد يقترب وقت النضج حتى تقفل عيون الخزان مرة أخرى لخزن المياه وقبل الموعد المحدد للحصاد ، فتغرق الزروع ويضيع جهدهم هباء ويخسر الأهالي ما كانوا سيدخرونه علفاً لمواشيهم وأغنامهم فترة الشتاء. ولا معين ألا الله .

كما أن عدم وجود المواصلات البرية التي تربط بين بلاد النوبة كانت سبباً آخر في تأخر البلاد وهي كذلك احد عوامل ضعف الرعاية الصحية ووسيلة الانتقال الوحيدة التي كانت تربط البلاد ببعضها البعض هي باخرة البوسطة السودانية التي تقوم بنقل الركاب والبريد والبضائع بين الشلال وأدندان ثم وادي حلفا مرةً كل أسبوع . هكذا كان حال النوبة بعد التعلية الثانية للخزان دمار وخراب وغرق ملايين من أشجار النخيل المثمرة وضياع عشرات الألوف من الأراضي الجيدة والسواقي والبيوت قدرت لها الحكومة تعويضات هزيلة لا تتناسب مع حجم الكارثة؛ صدق أو لا تصدق أن تعويض النخلة كان عشرة قروش وخمسين قرشاً وتعويض المنزل حسب عدد الغرف التي لا يزيد تعويضها عن الخمسة جنيهات وفدان الأرض كان عشرون جنيهاً!!!

ومضى عهد وجاء آخر لعله يبشر بالخير ويعيد للنوبة ابتسامتها ... وبعد 4 سنوات على التعلية قامت الحرب العالمية الثانية في عام 1938م وقد خلت النوبة من الشباب الذي رحل سعياً وراء الرزق ولم يبق سوى كبار السن والنساء والأطفال ومن استبقـتهم ظروف الحياة وأصبحت مناطق النوبة معزولة عن باقي القطر يُـنـفى إليها المستبعدين سياسياً والمجرمين الخطرين على الأمن ولولا وجود المدارس الأولية كمدرسة "عنيبـة" لظلت البلاد خالية من فرص التعليم للنشئ. ومع استمرار الحرب العالمية الثانية شمال مصر أضيفت جبهة أخرى للحرب في جنوب مصر في القرى الملاصقة للسودان تصل إليها الطائرات من جامبيا غرب أفريقيا تحمل معدات الحرب فحملت معها بعوضة الجامبيا؛ وهي اخطر أنواع الملاريا؛ وبدأ الوباء يفتك بالأهالي في القرى الجنوبية : أدندان وقسطل وأبوسمبل وبلانة. وأخذت تنتشر إلى الشمال حتى انه لم يكن هناك؛ في بعض القرى؛ من يقوم بدفن من مات فيستغيث الأهالي بأبناء القرى المجاورة. ومع عدم توفر الرعاية الطبية وصعوبة المواصلات فتك الوباء بالآلاف من الرجال والنساء ولم تشعر الحكومة بخطورة الوضع إلا بعد أن وصل الوباء إلى منطقة " كوم أمبو" حينها فقط تدخلت الحكومة. ولولا تدخل المؤسسات العالمية ومنظمة الصحة العالمية لقضى الوباء على البقية الباقية من أهل النوبة. لكن برغم الصعاب وغرق الأرض والمرض والموت والشتات وفقدان العائل فلسان حال النوبيين هو الحمد لله والصبر ودعوة المظلوم .

وتتوالى هجرات النوبيين من موطنهم عقب كل تعلية إلى داخل السودان وحلفا ودنقلة وشندي وبربر وأبوحمد ، والى أسوان وضواحيها منشية النوبة وغرب أسوان والكوبانية وأبوالريش ومنيحة ودراو وكوم أمبو والخطارة والرويسية ودار السلام ومنهم من توجه جنوباً إلى النوبة العليا في عنيبة ومصمص وتوشكى وأرمنا وبلانة .... والى قنا والطود و البغدادي والجبيل وأسنا والأقصر والى المدن الكبرى القاهرة والإسكندرية ومدن القنال..وهكذا بدأت النوبة تخلو من ساكنيها .

النوبة والسد العالى




بقيام ثورة 23 يوليو كانت هناك مشروعات للاستفادة من مياه النيل ومن أهم هذه المشروعات إنشاء سد عالي جنوب أسوان. وفي يناير 1960 احتفلت مصر بوضع حجر الأساس للمشروع، ولنا وقفة مع كلمة من خطاب الرئيس جمال عبد الناصر أثناء وضع حجر الأساس يقول :
"يجب إلا تشعروا بأي قلق بالنسبة للمستقبل. وإني أشعر بأن المستقبل سيكون كريماً بالنسبة لكم جمعياً وأن السد العالي لن يعطي الخيرات للشمال فقط وتحرمون انتم من هذه الخيرات لأن خير السد لأبناء الوطن جميعاً. وإننا ننظر إلى مستقبلكم لا على أساس تشتيت أبناء النوبة في كل مكان - ( ولكننا سنعمل على جمع شملهم جميعاً كما كان هذا الشمل مجتمعاً في هذه المنطقة على مر آلاف السنين ) - إننا نشعر أن الخير الذي سيعم أبناء النوبة سيكون الخير الكثير لأنه سيجمع شمل أبناء النوبة جميعاً على الأسس الصحيحة لبناء مجتمع قوي سليم ..."

وبدأ البناء ليبدأ معه العد التنازلي لبداية النهاية لبلاد النوبة. ويكون شهر مايو عام 1964م هو بداية غرق بلاد النوبة حتى جنوب وادي حلفا، وكان على النوبيين أن يفكروا في مصيرهم وقامت مجموعات منهم بالبقاء في المنطقة والصعود للجبال وبناء قرى جديدة كما كانوا يفعلون في التعليات السابقة لخزان أسوان لكن هذه المرة يكاد يكون الأمر مستحيلاً لبعد الأراضي التي تصلح للاستيطان بعشرات الكيلومترات وذلك سيكون عقبة في سبيل بناء القرى الجديدة في الوقت المناسب خاصة وإنه قد صدرت القرارات المنفذة بقواعد نزع الملكية ثم التهجير والإسكان وهنا كان لزاماً على النوبيين أن يفكروا في مصيرهم بعد بناء السد العالي؛ لذلك تم دمج كل الأندية والجمعيات والهيئات النوبية في كيان واحد وهو "النادي النوبي العام" ليكون لهم رأي موحد يعبر عن آمال النوبيين ومهمته دراسة مستقبل النوبة بعد السد وقامت الحكومة ببناء مسكن نموذجي على اعتبار أن هذا ما ستكون عليه بيوت النوبيين وقد نال هذا النموذج استحسان الوفد الذي اختير من بلاد النوبة وكالعادة تنصلت الحكومة من وعودها وعند التنفيذ كان الأمر مختلفاً تماما ً.
وتحدد يوم 18 أكتوبر 1963 موعداً لإخلاء النوبة من سكانها على عجل مهما كانت الظروف وبدأ نقل الأهالي إلى القرى الجديدة بطرق غير إنسانية لا تتوفر فيها وسائل الراحة بصنادل نيلية ومن دون أي رعاية صحية في نفس الوقت الذي كان يصاحب فيه قطارات نقل الحيوانات من "وادي حلفا" إلى "خشم القربة" طبيباً بيطرياً لرعاية الحيوانات .
وبوصول الأهالي إلى الشلال يتم نقلهم بعربات نقل "لوريات" مكشوفة مع منقولاتهم دون مراعاة للمرضى وكبار السن. كما تم نقل أهالي بعض القرى من النوبة قبل حتى استكمال بناء مساكنهم الجديدة ليحلوا ضيوفاً على أهالي القرى المجاورة. وهكذا أصبحت بلاد النوبة خالية من سكانها الذين عاشوا فوق أرضها آلاف السنين وتركوا ورائهم ، ولأول مرة؛ الأرض والذكريات وقبور آبائهم وأجدادهم وأعز ما يملك الإنسان: الأرض والذكريات.

حال قرى التهجير

بعد أن تم نقل الأهالي لقراهم الجديدة لم يكن الحال كما وعدت به الحكومة أو كما بشرت به وسائل الأعلام
عن طريق إذاعة وحى الجنوب وبالكتيبات التي تم توزيعها على النوبيين مبشرة بالمستقبل وأن كل فرد سينال نصيبه العادل وأنهم سيهجرون إلى موطن تتوفر فيه كل إمكانات الحياة من مساكن وأراضى وخدمات .لكن الحقيقة كانت مختلفة وحال القرى كانت سيئة لهذه الأسباب ..
أولا : اختيار مواقع صحراوية فى هضبة كوم أمبو التي تعتبر مخرات سيول لوديان جبلية مثل وادي خريط وشعيب ووادي النقرة غير ملائمة للسكنى .
ثانيا : عدم التأكد من صلاحية التربة التي بنيت فوقها المساكن والتي تعرف باسم الباجا مما يجعلها عرضة للتصدع والانهيار وبذلك تشكل خطورة على ساكنيها .
ثالثا : تكديس 42 اثنان وأربعون قرية هي مجموع قرى النوبة قبل التهجير والتي كانت موزعة على ضفاف النيل شرقا وغربا بطول 350 كيلو متر تم تكـديـسها فى دائرة نصف قطرها 50 خمسون كيلو متر مما نتج عنه ضيق مساحات القرى وبالتالي ضيق المنازل ناهيك عن عدم وجود الخدمات مثل المياه وخزانات الصرف وبعد الأراضي الزراعية عن القرى بنحو ثلاث كيلو مترات أحيانا .
رابعا : عدم وجود مساحات أضافية فى محيط القرى تصلح كامتداد عمراني لتواكب الزيادة المضطردة في عدد السكان.

النوبة والتعويضات

عندما غرقت بلاد النوبة في التعلية الأولى والثانية لخزان أسوان قام رجال المساحة بحصر كل المنشآت المعرضة للغرق وتثمينها بثمن هزيل لا يتناسب مع حجم الخسارة والتضحيات وهكذا كان هناك ثمن محدد لكل ما يمتلكه النوبيين ويجب أن لا تزيد عليه ومن الأمثلة التي ذكرناها أن ثمن النخلة هو خمسون قرشا وأحيانا عشرة قروش ، وفدان الأرض من عشرون جنيها إلى أربعون كان هذا تقدير رجال المساحة في الماضي لممتلكات النوبيين لكن المثير للدهشة ، بعد أنشاء السد العالي أن يأتي المساحون بنفس التقديرات السابقة والفارق الزمني بين هذا التقدير وذاك هو 30 ثلاثون عاما سبحان الله ؟ بدون أن يكلفوا أنفسهم عناء التفكير وما آلت إليه ظروف الحياة وتغير قيمة النقد . وليت الأمور استقرت عند هذا الحد بل هناك أيضا تفرقة في نسبة التعويضات بين أهل الشمال وأهل الجنوب الأراضي التي تم نزع ملكيتها في رشيد في نفس الفترة قدروا للنخلة تعويضا يساوى 34 أربعة وثلاثون جنيها وفى الجنوب خمسون قرشا والفدان في الشمال يساوى مئات الجنيهات وفى النوبة عشرون جنيها وكذلك التعويضات التي صرفت من خزانة الحكومة لأهالي وادي حلفا الذين تضرروا من السد العالي تعويض النخلة 15 خمسة عشر جنيها فلا نسبة ولا تناسب مطلقا والله المستعان .
وتأتى الكارثة الكبرى وكأنهم لم يكتفوا بعد قررت هيئة المساحة بأن أرض النوبة كلها من الشلال إلى
أدندان شرقا وغربا تبلغ مساحتها 14 أربعة عشرة الف فدان هو كل ما كان يملكه النوبيون مع العلم بأنها كانت أكثر من 75 الف فدان منها ما كانت تروى بالسواقي أو الطلمبات ومنها ما كان يزرع عند انحسار الخزان . لقد سقط سهواً من تقدير هيئة المساحة 60 الف فدان. وبهذا يكون الحال كأن قرية بأكملها لا يملك أهلها سوى قيراطين من الأرض !! فهل هذا معقول. وبهذه التقديرات الجزافية والتي لا ترقى لميزان العدل ضاعت حقوق كثيرة للنوبيين ولم يؤخذ في الحسبان الأجيال الجديدة والتي ولدت فوق أرض التهجير؛ فليس لهؤلاء نصيب لا في الأرض ولا في المسكن .

النوبة والمعونات الأجنبية

وبعد أن أستقر المهجرون في قراهم قامت منظمة الفاو؛ وهي من الهيئات التابعة لمنظمة الأمم المتحدة، قامت بمد الحكومة المصرية بنحو 12 مليون دولار كمساعدات غذائية ومالية للذين أُضيروا من السد العالي لإعادة توطينهم ومساعدتهم في الزراعات الشاطئية حتى تعمر المنطقة من جديد ويعودون إليها. لكن المسئولون عن التنفيذ كانوا يعدون كشوفاً بأسماء الصيادين في المنطقة وبعض الهاربين من الأحكام والتجنيد واعتبارهم مزارعين من النوبة. وهكذا تمت اللعبة، أفراد يوقعون بالاستلام وآخرون يتسلمون أراضيهم ولا بأس من تسليم الأهالي بعضها على سبيل التذكار. وبهذا الشكل أُهدرت مساعدات المنظمة الدولية على شواطئ بحيرة النوبة .
وعندما تنبه النوبيين لذلك وتم تقديم الشكاوى كانوا يستبدلون مسئول بآخر واللعبة كانت ما تزال مستمرة.
أما المعونات الغذائية التي كانت مقدمة من الهيئات الأجنبية لتوزيعها على المهجرين من أبناء النوبة فحدث ولا حرج. تم التصرف فيها لتباع في المجمعات الاستهلاكية وعلى أرصفة الشوارع بالقاهرة ، ولم يصل إلا القليل منها لمستحقيها .

النوبة ومساكن المغتربين

إن ما يسمى بمساكن المغتربين هي من اكبر المشاكل في النوبة. فالمنازل التي تم حصرها في عام 1962م بلغت 24 ألف مسكن ومع ذلك لم تبن منها الحكومة حتى عام 1994 سوى 16 ألف مسكن أما الثمانية ألف مسكن الباقية أُرجئ بناؤها لما بعد وهي بلغة الحكومات تعني ربما سنفعل وبالطبع لن تفعل لأنه بعد عشر سنوات من الهجرة لم تف الحكومة بوعدها ولم تقم ببناء ولو مسكن واحد إضافي. والآن وبعد أكثر من أربعون سنة مازال الكثيرون من النوبيين ينتظرون في كشوفات المغتربين؛ وبعضهم قد وافته المنية والآخرون ينتظرون. وهذا الذي يحدث لم نسمع به في أي مكان على الأرض إلا عندنا نحن. وتمر الأعوام وتتبدل القيادات والوعود لا تنفذ ونحن لا نمل ولا نكل من تقديم الشكاوى و الاحتجاجات ومازالت الحكومة تطالبنا بثمن المساكن .

*****************
وسوف نلتقي في الرسالة القادمة لنكمل الباقي عن بلاد النوبة .